بقلم – محمد مقلد
قضى يوماً كاملاً مع صديقه بحى المهندسين الراقى ، وقبل الوداع للعودة من حيث
أتى ، أصر صديقه على تناول الغداء معاً ،
فقادتهما الصدفة لأحد المطاعم الشهيرة ، عيناه تترقب ديكورات المطعم ، حتى التقت بعينيها
، فمن تلك السيدة الأنيقة التى انشغلت عن تناول طعامها بالنظر إليه بصورة لفتت
انتباه صديقه مما دفعه للسؤال ، أنت تعرف الست دى ؟ فنفى تماماً إذا كان قد التقى
بها من قبل وأنه لأول مرة يراها فى حياته.
نفيه لعدم رؤيتها من قبل لم يمنع ذلك الصوت الخفى الذى يهمس فى أذنه بأنه
يعرفها جيداً والتقى بها ولكن أين ومتى لا يدرى ، غاص فى أعماق الذاكرة
لعله يلمس بنفسه أى بصيص من الأمل يمنح عقله حق إزاحة غطاء النسيان ليفسر له سبب
هذا الإحساس ، انتقلت عينيه لتتصفح ذلك الصبى الذى يتناول معها الطعام ، فازداد
شعوره بأنه يعرفها جيداً وأنه رأى هذا الصبى من قبل ، ولكن من تكون ؟ ومتى التقى
بها ؟ استفسارات بدأت تتسابق على ذهنه ، انشغاله بالبحث عن إجابات لها، جعلته لا
ينتبه لصوت صديقه وهو يسأله عن نوعية الطعام الذى يريد تناوله.
يبدو أن عقله نجح فى مهمته ، كان
يعمل مدرساً بإحدى المدارس الخاصة عقب تخرجه من الجامعة ، السيدة الأنيقة تعودت
على أن تصطحبه بسيارتها الفارهة حيث منزلها بأحد الأحياء الراقية بالمدينة التى
يقيم فيها ، فقد كان مدرساً خاصاً لنجلها التلميذ بالصف الخامس الإبتدائى، زوجها
يعمل مهندساً بإحدى الشركات بدولة البحرين ، لقد مر أكثر من عشر سنوات غيّرت من
ملامح وجهها كثيراً ، تذكر تصرفاتها معه ونوعية الملابس التى تتعمد ارتدائها
لإثارة غريزته الجنسية تجاهها ، فما أصعب أن يبتعد الزوج عن زوجته وشعورها
الدائم بالفقد للغريزة التى تبحث عنها أى سيدة.
انتابه الخوف من وصوله لمرحلة الضعف والاستسلام لرغباتها والسقوط فى بحر الرذيلة ، فإذا كانت هى تنظر
للأمر على أنه بالنسبة لها الفرصة الذهبية
لإشباع رغباتها الجنسية المكبوتة ، فهو كان يرى أنه لا ذنب لزوجها الذى اختار لنفسه
الغربة والابتعاد عن بلده وأسرته وأقاربه وأصدقائه من أجل أن يوفر لها ولأبنه حياة
كريمة ، حتى تكافئه زوجته بالخيانة والغدر.
فوجئ بها وبجرأة تحسد عليها أمامه تسلم عليه وعلى صديقه ، و تقول لنجلها ،
أنت عارف ده مين ، ده كان المدرس بتاعك ، وبتصرف غير مفهوم جلست هى ونجلها دون
استاذان ، وظلت تتحدث مع صديقه عن الماضى الجميل والأحداث التى مر عليها سنوات
عديدة انقضت ، طبعاً دون أن تذكر له السبب الرئيسى فى عدم استكمال مهمته الدراسية
مع نجلها ، ذكاء صديقه كشف أنها تريد أن تتحدث معه بمفردها ، فانصرف مؤكدً عليه ضرورة تكرار الزيارة فى أقرب وقت.
اصطحبته فى سيارتها الفارهة لاستكمال الحديث فى مركب عائم بنهر النيل
، وبدت عليها تصرفات وايحاءات غريبة ،
وأخذت تلومه على هروبه من استكمال مهمته مع نجلها ، وتحاول أن تقنعه أنها كانت تحبه ولا تريد منه أى
شئ غير الحب ولم تفكر على الإطلاق فى تصرف يغضب الله تعالى ، وهو كان لا يشعر تجاهها
بأى عاطفة كما أنها تكبره بثلاثة أعوام.
انقضى اللقاء وتبادلا أرقام
الهواتف لاستمرار التواصل بينهما ، فهل الهاتف سيكون البداية للقاء ؟ واللقاء يمهد
الطريق للشيطان ليفتح باب الرذيلة بينهما ، فزوجها الذى كان حائلاً أمامه وسبب رئيسى
فى الهرب منها لا وجود له الآن بعدما وافته المنية وترك لها ثروة مالية لا بأس بها
، ولكن هناك من يخشاه ولا يريد غضبه لاسيما وأنه متزوج ولديه أبناء.
انقضى العام وراء الآخر التزم خلالها بوضع حدود معينة فى علاقته بها ، حريص
ألا يخرج حديثه معها عن المألوف ، وتعددت اللقاءات بينهما وهو لا يعرف لماذا لم
يتخذ القرار للابتعاد عنها بعدما فقد طاقته فى التهرب من ألاعيبها وإلحاحها
المستمر لزيارتها بالمنزل ، طرح عليها فكرة الزواج من أى رجل تجد أنه مناسب ،
لاسيما وأنها تجمع بين الجمال والمال ، وأى رجل يتمنى مجرد إشارة واحدة منها.
انشغل عنها وتجاهل الرد على اتصالاتها بعدما قدر الله تعالى أن يبدأ طريقه
بالعلاقة الصعبة مع " رحيل " تلك العلاقة التى جذبته رغم أنفه لعالم آخر
أفقده الكثير من الوقت والجهد واستنزاف طاقته ، ولما لا وهى توأم روحه وحبه
الحقيقى الذى طالما بحث عنه طوال حياته ، وكادت مشاكله المستمرة مع رحيل تعصف به ليغرق
فى بحر السيدة الأنيقة التى وصلت الأمور معها لطلب الزواج منه ، فتحجج بأسرته وحبه
لزوجته وأبنائه ، وأنه من المستحيل أن يقدم على تلك الخطوة لحفظ كرامة زوجته
والحفاظ على أسرته من الانهيار ، وعرض عليها أن تبحث عن أى رجل آخر لتستكمل معه ما
تبقى من عمرها ، فكان ذلك يزيدها إصراراً على الزواج منه لأنها تحبه ومن المستحيل
أن تتزوج غيره.
إصرارها الزواج منه أصابه بالخوف والقلق ، فلم تفلح معها كل الوسائل التى
اتبعها للتهرب منها فقرر أن يتخذها ملجأ
لتخفف عنه ما يعانيه فى علاقته الروحية مع رحيل ، حتى تغلب عليه شيطانه فى ليلة
سوداء باستغلاله خلاف حاد وقع بينه وبين رحيل وإهانتها له ولكرامته ، فإصطحبه بإرادة
مسلوبة لمنزلها فى غياب نجلها ، فكل الأمور مهيأة ليقضى ليلة تحوله لشهريار ، فبعد
تناول ألذ أنواع الطعام والشراب ، والانتهاء من وصلة رقص بملابسها الشفافة المثيرة
للغرائز على أنغام الموسيقى الهادئة والأضواء الخافتة ، جاء الوقت الذى ينتظره الشيطان بفارغ الصبر ، لم
يشعر بنفسه إلا وأقدامه تسابق بعضها للهرب من هذا الكمين الذى نصبه أبليس وكأنه
محاط بملائكة أرسلهم الله تعالى لتنقذه من السقوط فى هذا المستنقع القذر.
اصطدمت كل حيلها معه برفضه القاطع الزواج منها ، حتى كانت الصدمة التى
جعلته يقف أمام المرآة ليسأل نفسه ، ماذا فيه من مميزات حتى تتمسك به هذه السيدة بهذا
الشكل المخيف ، فقد عرضت عليه نصف مليون جنيه مع تحرير إقرار على نفسها بألا يكون لها أى
حقوق لديه عقب وفاته لتطمأنه على مستقبل أسرته ، ومع أنه يرى أن عرضها هذا يعد
إهانة لكرامته ، ولكن عقله حاول أن يقنعه بأن تلك الطريقة ربما تجعله يتخلص من
علاقته المرهقة برحيل ، وهو لا يعلم أنها علاقة قدرية.
يبدو أن عقله أصابه الخلل حتى يروى لزوجته كل ما حدث مع تلك السيدة وعرضها
لهذا المبلغ للزواج منه ، بل وصلت سذاجته لحد أن يسألها عن رأيها فى هذا الأمر ،
وكأى أمرأة لديها كرامة وعزة نفس ، قضت
زوجته ثلاثة أشهر غاضبة منه لا تتحدث معه ، ولم يزح هذا الخصام إلا قسمه لها بأن
يقطع علاقته نهائياً بتلك السيدة ، ونجح فى مهمته وأنقذ نفسه من براثنها وتصرفاتها
المريبة.
كان ما تقدم جزء من الفصل الأخير من رواية " رجل فوق السحاب "