بقلم – محمد مقلد
زيارتك الأخيرة رغم قسوتها ومرارة ما بها من اتهامات موجعة أصابت أعماقى
وأرهقت قلبى ، لكنها انتشلتني من الغيبوبة التى سقط بسببها فى بئر من الوحل
لأتناسى كل ما تعلمته على يديكى يا أطهر وأنقى خلق الله.
نعم يا أمى أعترف أننى ضللت الطريق الذى طالما قضيتى الساعات والليالى
ترسميه أمامى لألتزم به ولا أحيد عنه أبداً ، طريق يشترط لمن يسلكه أن يضع الله
تعالى نصب عينيه ولا يحب غيره ، فقد تعلمت منكِ أن من يحب الله يحب الخير لخلقه ،
نعم لقد شاهدتك وأنت تفضلين أشقائك حتى على نفسك وأولادك ، رأيت بنفسى وأنت لا
تدخرين جهداً للصلح بين المتخاصمين من الجيران ، لا تنامى ولا يغمض لكِ جفن إلا
بعد عودة الوئام بينهم.
نعم أتذكر مواقفك معى التى ظلت محفورة داخل عقلى وتعلمت منها الكثير ،
أتذكر عندما حاولت أن أخبرك عن خطأ قامت به شقيقتى فما كان منكِ إلا أن قابلتى
كلامى بضربة قوية على وجهى وأنت تصرخين " متفتنش على حد عيب كده حرام "
ولم أنسِ ذلك اليوم الذى سطوت فيه على 25 قرش دون علمك لأشترى مجموعة من قصص
الأطفال لأستمتع بقراءتها ، وعندما سألتينى أنكرت ولم أقل الحقيقة ، وما أن تأكدتى
بأننى الجانى قمتى بتقييدى بالحبال فى رجل السرير ليومين كاملين ، وأنت تضربينى
بقسوة بين الحين والآخر مستخدمة سلك الكاسيت حتى تورم وجهى ، وتسبق صرخات التوسل
بأن ترحمينى جملتك القاسية " أنت حرامى وكمان كداب " ، ولم يشفع لى إلا تدخل بعض الجيران.
نعم أعرف يا أمى أن فرط قسوتك علىً فى هذا اليوم نابع من شدة حبك لأقرب
أبنائك لقلبك ، فكيف أنسى أنك حررتينى من قيودى ودموعك تتساقط بغزارة لتعلن عن
رفضها رؤيتك وجهى قد تشوه بفعل ضرباتك
القاسية ، وتطلبى منى أن أسامحك مع نصيحتك بأن المال الحرام لا يدوم ويضر بصاحبه ،
والموت للإنسان أشرف بمراحل من الكذب ، أنها دروس تعلمتها منك تحتاج لصفحات وصفحات
لسردها ، مع أنك وللأسف الشديد لم تنالِ حظك من التعليم ، وأيقنت من وقتها أن
الأخلاق لا ترتبط بأى حال من الأحوال بالمستوى التعليمى ، ولكنها تنبع من داخل
الشخص نفسه ومدى قربه من الله تعالى.
أعترف يا أمى بأنك الشخصية الوحيدة التى أثرت فى أعماقى وشكلت ملامح شخصيتى
، ويكفى أنكِ تمسكتى بخصالك الجميلة رغم الظروف الصعبة التى وضعك فيها القدر ،
ظروف لا يتحملها بشر ، كانت تتجسد أمامى بصوت بكائك الذى كان يشق سكون الليل
بكلمات حزينة تصعد لخالق هذا الكون لتدعوه بأن يكن بجوارها ويعينها على مشقة تربية
أطفال صغار تركهم رب الأسرة دون مورد إلا مبلغ ضئيل لا يكفى حتى لسد أقل
الاحتياجات.
أعلم يا أمى أنك غضبانه منى وحزينة على حالى ، بعدما تناسيت ما زرعتيه
بداخلى من قيم ومبادئ ، وبدأت بعض الصفات الذميمة تسيطر علىّ وعلى تصرفاتى ، ألم
أقل لك يا أمى عندما نصحتينى بأن أنخرط فى المجتمع بأننى أخشى على نفسى من قسوته
والشر الذى يسيطر على معظم أفراده ، أنه الزمن يا أمى الذى اختلف كثيراً وانحدر
بأخلاق وطباع البشر لأدنى الدرجات ، اللهث وراء المال الحرام تحول لميزة ، وأصحاب
النميمة والكذب يتصدرون المشهد ، والنرجسيون تكاثروا بصورة مرعبة.
اللصوص عديمو الضمير يجدون من
يرفعهم على الأكتاف ويصفق لهم من المنافقين وأصحاب المصالح الخاصة ، والظلمة
تجبروا يخرجون ألسنتهم للجميع دون رادع ، أنتم يا أمى بجوار الله تعالى ولا تشعرون
بالغابة التى أصبحنا نعيش فيها ، غابة ضاع الدين من بين أفرادها ، الشيطان سيطر عليهم وعلى أفعالهم ، لقد انتشر
بيننا يا أمى من يتاجرون بالموتى والدين ، يزرفون دموع التماسيح عمال على بطال
لخداع كل من حولهم ، بارعون فى التمثيل
وهم يرتدون قناع المظلومية مع أن كل من حولهم يعلم جيداً أنهم مجموعة من الشياطين
لا ملة لهم.
لقد كنت محاصر يا أمى وأنا بشر معرض لأن أتأثر بالمجتمع والبيئة التى أعيش
فيها ، ولكنك كما عودتينى تظهرين فى الوقت المناسب لتنقذينى كلما ضللت الطريق.
أرجوكى يا أمى سامحينى.