يوميات فاهم أفندى
استيقظ فاهم أفندى التاسعة صباحاً ، أنه يوم الجمعة ، يشعر بالضيق وعدم
الرضا ، ارتدى ملابسه قاصداً المقهى للجلوس عليها بعض الوقت قبل موعد الصلاة ، طلب
قهوته المعتادة وبدأ يفكر ودخان سيجارته يحاصره ، قطع حبل أفكاره صوت صديقه محروس
البقال " صباح الفل يا فاهم " أزيك عامل أيه النهاردة ، فرد فاهم الصباح
على صديقه ، الحمد لله يا محروس كله خير ، أقعد ، تشرب أيه ، محروس يسحب الكرسى
وقبل أن يجلس ، عايز شوية شاى فى الخمسينه.
لاحظ محروس أن هناك أمراً ما يشغل صديقه فاهم ، وكعادته بدأ يسأله ، مالك
يا فاهم شكلك مش مظبوط خالص ، خير فى حاجة مضيقاك ، نظر إليه فاهم وعينيه تنطق بما
يشعر به من ألم ، لا أبداً يا محروس ، بس أول إمبارح بالليل كنت فى مشوار لسه
معكنن عليه لحد دلوقتى ، بجد يا محروس الواحد مش عارف جرى أيه للناس.
خير يا فاهم أحكيلى ، والله يا محروس ليه صديق اسمه عامر بيشتغل فى مصلحة
قريبة من المصلحة اللى بأشتغل فيها ، قابلنى وطلب منى أروح معاه أزور المدير
بتاعهم عشان عيان خالص وبيطلع فى الروح ، بصراحة أنا قلت أروح معاه ، وأدينى هاخد
ثواب زيارة مريض ، ويا ريتنى ما رحت يا أخى ، أنا حاسس أنى خدت ذنب بزياته دى مش
ثواب خالص.
عارف يا محروس وأحنا فى الطريق فوجئت بعامر بيقولى ، تصدق يا فاهم ولا واحد
من الإدارة بتعاتنا عايز يزور المدير ده ، بس أنا قلت واجب ولازم أعمله ، سألته
ليه يعنى كده ، فهز رأسه فى حزن ، هأقولك أيه ولا أيه بس يا فاهم ، خليها على الله
، عموماً يا محروس وصلنا ، وشعرت والعياذ بالله أننى أمام شيطان رجيم ، وليس إنسان
، وجهه أسود شاحب ، وعيناه منتفختان ، ولا يقوى حتى على الحركة ، ويتحدث بصعوبة
بالغة ، فجلسنا بجواره ، فإذا به يبكى ويدعو الله أن يرحمه من عذاب الألم الذى
يشعر به ويعجل بنزع روحه ، فقلت له ، شد حيلك ربنا يخفف عنك.
ففوجئت به يا محروس ، يرد على دعائى له والألم والحسرة تخرج من بين كلماته
، أنا عارف أن ربنا بيعذبنى فى الدنيا قبل انتقامه فى الآخرة ، أديك شايف مفيش ولا
واحد من اللى شغالين معايه عايز يزورنى ، كلهم بيلعنونى وبيلعنوا اليوم اللى
شافونى فيه ، أنا نفسى ربنا يسامحنى والناس اللى ظلمتها دى تسامحنى قبل ما أموت ،
بس هيسامحنى على أيه ولا أيه بس ، أنا نسيت أنه تعالى يمهل ولا يهمل ، تجبرت ،
وظلمت ، استحللت المال الحرام ، استخدمت كل الأساليب الملتوية والمشبوهة من أجل
مصلحتى ، فقاطعه فاهم أفندى محاولاً التخفيف عنه بقوله ، هون عليك ، ربنا غفور
رحيم.
أزاى بس يا أستاذ فاهم ، أنا استغليت سلطتى أسوأ استغلال ، لم أراعى الله
تعالى فى عملى ، سيطر علىّ الشيطان حتى اعتقدت أن الإدارة عزبة خاصة أفعل فيها ما
شئت دون رقيب ، مفيش حاجة غلط معملتهاش ، كنت أتعمد ترقية البعض على حساب من هم
أحق منهم ، وده بسبب أنهم مقربين منى وموالين لى ، ويتستروا على فسادى ، هذا بخلاف
ما يقدموه لى من هداية مادية وعينية ، وكنت غير عادل بين من يجتهد فى العمل ومن
ينافقنى وينقل أخبار زملائه لى ويقدم لى فروض الطاعة ، حتى المكافآت كنت أوزعها
بما لا يرضى الله تعالى ، استخدمت نفوذى لنقل هذا وتشريد ذاك ، وتلاعبت بالجميع
بما فيهم رئيس المصلحة الذى كنت ألعنه وأسبه بأفظع الألفاظ وألصق به أمور مشبوهه
لألوث سمعته.
استخدمت أسلوب الأفاعى للتقرب منه ، كذبت عليه وتمسكنت أمامه ، ونقلت له
معلومات كلها مغلوطة لأكسب رضاه ، قدمت له كل أنواع الرشاوى فوجدته يقبلها فعرفت
أنه سيكون مثل اللعبة فى يدى أحركها كيفما أشاء ، حتى الهدايا التى كنت أقدمها له
أدعى بأنها من جيبى الخاص رغم أننى أقوم بتحميلها على الفواتير الخاصة بالإدارة وهى
أموال كما تعلم ملك للدولة ، كنت أشترى أشياء متنوعة لنفسى ولبعض المقربين منى ،
وتحميل ثمنها على الفواتير الخاصة بالإدارة ، فهى فى النهاية أشياء من الصعب أن
يكتشفها أحد.
أنا كنت حرامى بجح كما يقولون ، لدرجة
أننى كنت أقوم باستغلال منصبى لإصدار فواتير بشراء بعض الأشياء ليس لها وجود
بالإدارة لأسطو على ثمنها لنفسى ، استخدمت أسلوب الصوت العالى والألفاظ البذيئة
حتى يرتدع الجميع ، ولا أحد يجرأ على محاسبتى على فسادى هذا ، ومن يقف فى طريقى أو
يخالف أمرى أهدده بالتقديرات السنوية وحرمانه من المكافآت ، ظلمت وقهرت العديد
والعديد من الموظفين مستغلاً سلطة منصبى والتى كنت استخدمها لمجاملة بعض المديرين
زملائى على حساب أموال وحق الدولة ، ما من شئ كما يقولون " شمال " إلا
وقمت به ، وكان لا يهمنى مصلحة العمل بقدر ما كنت أبحث عن المكاسب الشخصية التى
أحققها من منصبى هذا.
لقد قادنى شيطانى لطريقه واعتقدت أننى فى مأمن ، ولا أعرف أنه سيأتى يوماً كهذا
لينتقم منى الله ويستجيب لدعوات كل من ظلمتهم وتسببت فى قهرهم ، حتى وصلت الأمور
إلى أمنيتى أن أموت هرباً من الألم والوجع الذى جعلنى لا أعرف طعماً للنوم والراحة
، وكيف يرحمنى ربى وأنا كنت أنافقه فى صلاتى وصيامى لدرجة أننى كنت أتناول طعام
حرام على الإفطار وأنا صائم ، وذهبت لأحج بيته الحرام بأموال مشبوهه ، كنت أفعل
ذلك حتى أظهر أمام الموظفين أننى المدير الصالح لأغطى على ما أقوم به من خطايا
وكبائر ، ولا أدرى أن الله كان يمهلنى ولكن لا يهمل ما أقوم به.
وهنا قاطعته يا محروس وطلبت الانصراف على أن أقوم بزيارته فى وقت لاحق ،
حيث طرأت على رأسى فكرة بأن أحاول اقناع بعض ممن ظلمهم هذا المدير بمسامحته ويأتوا
لزيارته ، وعندما خرجت سألت عامر ، هو المدير ده ظلم مين بالظبط ، ففوجئت به يقول
، بإنه ظلم كل من يعمل بالإدارة إلا عدد قليل لا يحصى إلا على اليد الواحدة ،
فأصبت يا محروس بالصدمة وقلت لعامر ، كل دول ظلمهم يا نهار أبيض ، وعشان كده يا
محروس بدأت أسأل عامر عما قاله هذا المدير
عن نفسه وكأنه على كرسى الاعتراف ، ففوجئت بعامر يؤكد كلامه بل ويضيف بقوله ، عارف
يا فاهم كل اللى أنت سمعته ده حاجة بسيطة من الحاجات المقرفة اللى كان بيعملها ،
ده فى بلاوى هأقولك عليها بعدين.
عارف يا محروس أنا كنت نفسى أعرف هم راحوا فين شلة المنتفعين من هذا المدير
، ده مفيش ولا واحد منهم زاره يا راجل ، ولما سألت عامر ، فوجئت بالغضب على وجهه ،
وأخذ يصرخ بصوت عالى ، دول عبيد الكرسى يا فاهم ، دول بيخدموا الكرسى وميهمهمش مين
اللى قاعد عليه ، المنسون والمسهوك والسوسة وأم 44 وغيرهم كلهم باعوه ، دول كمان
دلوقتى بيطلعوا قدام الموظفين بيدعوا عليه ، وغيروا جلدهم فى ثانية وبيدوروا دلوقتى
على مين هيمسك مكانه عشان يلحقوا نفسهم وينفقوه قبل فوات الآوان ، بص يا فاهم عدى
عليه على القهوة فى أى وقت وأنا هحكيلك على قصتهم واحد واحد ، بلاوى والله يا فاهم.
تصدق يا محروس ، أنا رغم كل اللى سمعته وعرفته بس كنت عايز أساعد المدير ده
فى مرضه ، فقلت لعامر أنا هشوف ثلاثة ولا أربعة من اللى ظلمهم وأحاول معاهم يمكن
يسامحوه وأجيبهم يزوروه ، ولكن يا محروس كل ما أكلم حد ، بمجرد أنه يسمع بس اسمه ،
ألاقيه نازل دعاوى عليه ويدعو الله ألا يريحه ويظل هكذا يتعذب بمرضه عقاباً له على
ما اقترفه فى حقهم ، فقد فوجئت يا محروس أن المدير ده نقل موظف عشان مردش عليه
تحية السلام ، ونقل آخر لمجرد الحقد والغيرة منه ، وغيرهما تم نقله لمجرد أن أحد
الموالين له طلب ذلك ، المدير ده يا محروس تخلص من أصحاب الأيادى الطاهرة والسمعة
الطيبة واحتفظ حوله بالمشبوهين من أصحاب السمعة السيئة حتى يمهد لنفسه الطريق
للسرقة ونهب أموال الدولة.
وياريت على قد كده وبس يا محروس ، البيه بسلامته أساء لبعض الموظفات بالطعن
فى سمعتهن وتشويه صورتهن بصورة مقززة ، بالفعل يا محروس ما يفعله هذا المدير فاق
كل الحدود ، ودفعنى لألغى زيارتى له مرة أخرى ، وأقول بأعلى صوت " ربنا ما
يخدوا ويفضل كده يتعذب بذنب كل اللى ظلمهم واستحلاله المال الحرام" اللهم
آمين.