بقلم – محمد مقلد
مواجهة صديقه بتلك الحقيقة أصبحت كابوساً مزعجاً يطارده حتى وهو يقظ ، لا
يقل عن الشعور المنتظر من إيناس فى حال وصل لمسامعها ما قالته نجلاء ، فهل من
العقل أن تعترف فتاة بتلك الجرأة بحبها لشاب وهى على علم بأن صديقتها المقربة تقع
فى حبه ؟ أنها لوغاريتمات الحياة ، ومعادلات الدنيا المعقدة ، وأخلاق وصفات زرعها
الشيطان داخل نفوس بعض البشر.
انتهت رحلته القصيرة بين السحاب ، الهروب قرر اختطافه من بين أصدقائه ،
ليبتعد به عنهم حتى يلتقط أنفاسه ويراجع نفسه فى الأحداث الغريبة التى بدت تدور من
حوله.
ارتدى ملابسه ، وحدد وجهته بقضاء بعض الوقت على المقهى المفضل لديه بعد
قراره بالابتعاد لفترة عن شلته الجامعية ، فى ظل الأحداث الغريبة التى أفقدته
الاتزان العقلى ، وشعوره بأزمات عاطفية تكاد أن تعصف بالترابط الذى جمع بين أعضاء
تلك الشلة ، فالظروف وحدها جعلت منه عامل مشترك بين أطراف هذا الصراع العاطفى.
سمع صوتاً يناديه ، فألتفت ليجد عبدالله ومحمود جيرانه ، الطالبان بكلية
الآداب بجامعة الزقازيق ، فانتظر ليعرف ماذا يريدان منه ؟ فبادره عبدالله ، أنت
رايح فين ؟ فرد بصوتاً خافت ، أبداً هقعد شوية على القهوة ، وجاء الدور على محمود
ليسأله ، أنت ما بترحش الكلية ولا أيه ؟ فقال ، مش رايح الأسبوع ده عايز أريح شويه
، فعرض عليه محمود أن يصطحباه معهما ليقضى بعض الوقت بجامعة الزقازيق ، فراق له
العرض ووافق بدون تردد ، فهو يبحث عن أى شئ ينسيه الأحداث الأخيرة.
على أبواب كلية الآداب تسمرت قدماه ، انشغلت عيناه بمراقبة خطواتها الواثقة
، وشموخها المذهل ، وجمالها الفاتن ، وأناقة ملابسها التى تخطف الأبصار ، معظم
العيون تتجسس عليها تراقب خطواتها ، تأثر بها ، فسأل عبدالله ، مين دى؟ فابتسم
عبدالله ابتسامة خفيفة ، وكأنه توقع منه هذا السؤال ، دى بقه تقدر تقول كده
برنسيسة كلية الآداب كلها ، ومن أجمل بنات الجامعة بصراحة ، وأحلى ما فيها أنها
مؤدبة جداً ، من يوم ما شفناها فى الكلية وهى فى حالها مبتتكلمش مع حد ، وياما
شباب كتير حاولوا يكلموها ولا هى هنا ، ملهاش إلا صاحبة واحدة معانا فى الكلية
اللى واقفة معاها دى واسمها أسماء.
وفى هذه اللحظة صعد حيث مكانه المفضل بين السحاب ، ليتحدث مع نفسه عن ذاك
الشعور الذى اقتحم وجدانه لمجرد رؤيتها ، فهل هو الحب الذى يتحدثون عنه ؟ أم نوع
من الانجذاب العادى لشخصية نادرة ربما لم يرى مثلها من قبل ؟ عقله يلح عليه ليخوض
تجربة مستحيل أن يحقق فيها أى نجاح ، ليس لشئ إلا أن يثبت لنفسه أنه مرغوب فيه وأن
سجن الفقر والحاجة لم يمنعه من الإحساس بالكبرياء وعظمة الأنا ، وأنه موجود وله
تأثير داخل مجتمع دائماً ما يقسو عليه.
أنه يسقط فى مستنقع الخطأ ، يقيس قيمته ومكانته بأن تقع فى حبه فتاة مرغوب
فيها من الجميع ، فلم يتعود على مطاردة أى فتاة حتى ولو كانت تتصدر قائمة الجمال
فى العالم ، فالتجربة بالفعل شاقة ، أقرب نتائجها أن تقوده لألم جديد يضاف إلى
آلامه وأحزانه ، فمن هو حتى تميل له فتاة يلهث خلفها معظم شباب الجامعة ، وكل
أملهم نيل ولو نظرة واحدة من عينيها حتى ولو بالمصادفة.
بدأ رحلته الميؤوس منها مع لمياء ، بتعمده التواجد فى جميع الأماكن التى
تتردد عليها ، حتى داخل مدرجات الكلية نفسها ، يطاردها بعينيه ، يبحث عن لفت
انتباهها بأى وسيلة ، مجهود شاق يبذله يومياً دون أى تقدم ملحوظ ، وهو يسأل نفسه باستمرار
، لهذه الدرجة أنا بالنسبة لها سراب ، ليعود ليعترف ، معها كل الحق ، فمن أكون أنا
حتى تقع تلك البرنسيسة فى حبى أو حتى مجرد أن تعبر عن اعجابها ، شعر باليأس
والإحباط بعد أن أضاع ثلاثة أشهر كاملة ، لم يترك مكان تتردد عليه إلا وتواجد فيه
، حتى منزلها نفسه كان يتردد عليه يومياً ويجلس بالساعات يتنظر خروجها من الشرفة
لعلها تشعر بوجوده واهتمامه بها.
استسلم فى النهاية للأمر الواقع ، وتأكد أن عبدالله ومحمود كلامهما منطقى
عندما أكدا له أن الوصول لها درب من الخيال ، فقرر أن يعود لحياته الطبيعية من
جديد ، بعدما أضاع كل هذه الفترة لم يذهب خلالها حتى ولو ليوم واحد لكليته
بالقاهرة.
استيقظ صباح أحد الأيام على صوت عبدالله ومحمود ، يطلبان منه أن يرتدى
ملابسه سريعاً لأمر هام ، ففوجئ منهما بحديث غريب لم يلتفت له ولم يعيره أى اهتمام
، لأنه شعر بأنه كلام غير واقعى ، فكيف له أن يصدق أن لمياء برنسيسة جامعة
الزقازيق ، تتردد على الأماكن التى كان يتواجد فيها لتبحث عنه ، ومعه كل الحق ،
فلم يرى منها أى بوادر أو تصرف واحد أو حتى نظرة عابرة ، تمنحه مجرد الأمل فى أن
يكن هو أول شاب يخترق تلك القلعة الحصينة المغلقة على نفسها فى وجه الجميع.
استغرق يومين يفكر فيما قاله عبدالله ومحمود ، وهو يحاول أن يقنع نفسه ،
باحتمالية أن يكن كلامهما فيه شئ من الحقيقة ،
وبعد فترة التردد اتخذ القرار وتوجه لجامعة الزقازيق ، ليستكشف حقيقة
كلامهما ، وإن كانت نفسه تحمل شعور اليأس الذى سيطر عليه من قبل.
أين هى ؟ ليست متواجدة ، بحث عنها فى كل مكان داخل الجامعة دون جدوى لقد
اختفت تماماً ، يبدو أنها إجازة فى هذا اليوم ، خرج من باب الجامعة وقد سيطر عليه
الحزن على وقته الذى ما زال يهدره للجرى وراء سراب لا وجود له على أرض الواقع ،
الأمطار تتساقط بغزارة لتبتل ملابسه وتتغير معالم تسريحة شعره ، وجد نفسه يتجه
للكافيه القريب من الجامعة والذى تعود التردد عليه خلال فترة مطاردته للمياء.
إنها المفاجئة التى ألقت بقلبه فى
سباق رهيب جعلت دقاته تتفوق على عقارب الساعة ، وأثقلت قدماه وكأنه وقع فى بحراً
من الرمال ، انتفاضة وجدانية أصابته بارتباك وفقد الاتزان ، ها هى أمامه ، بدت
وعينيها حائرة يميناً ويساراً تبحث عن شئ مفقود ، حتى كانت اللحظة الأصعب باقترابه
رويداً رويداً ، بأول لقاء يجمع عينيه بعينيها ، كاد أن يغرق فى بحر من الخيال ،
لولا أنها أنقذته بابتسامة رقيقة دفعته للتوجه إليها دون تردد وكأنها كانت فى
انتظاره ، ليمد يديه بعفوية وبإرادة مسلوبة ، ليلامس يديها دون أن تتشابك الأصابع
، وبدأت الكلمات تسطر أول حديث بينهما ، وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد
هو : أزيك يا لمياء عامله أيه.
لمياء : الحمد لله .. أنت أيه أخبارك
هو : ماشى الحال.
لحظة سكون يفرضها الموقف عليهما ، يبحث كل طرف عن الكلام دون جدوى.
هو : بصراحة أنا مش عارف أقولك أيه ، صمت برهة ، وكسر صمته بقوله ، أيه
رأيك نقعد شوية فى كازينو الربيع " وهو كازينو يبعد قليلاً عن الجامعة "
، فوافقت دون تردد.
لقد وقع فى مأزق حقيقى لا يعرف كيف يخرج منه ، فإذا بهما يترجلان فى اتجاه
الكازينو ، وكل طرف منهما مشغول عن الآخر ، فهى تبحث فى معجم وجدانها عن كلمات
مناسبة للتعبير عن شعورها نحوه ، أما هو فقد كانت يديه تتحسس فى سرية تامة ما فى
جيبه من نقود ، فهل ما معه سيكفى ثمناً لما سيتناولونه من مشروبات ؟ لقد تناسى
المشاعر والأحاسيس ، وبدا هذا الأمر يسيطر عليه ، وأخذ يحدث نفسه ، طب أنا فى جيبى
دلوقتى 55 قرش ، والشاى بأربعين قرش ، ده غير اللى هى هتطلبه ، أعمل أيه دلوقتى ،
مشكلة بجد ، أنا كان أيه خلانى انسحب من لسانى وأقول لها تعالى نروح الكازينو ده.
أثناء صراعه مع نفسه حول هذا المأزق ، التفت يساراً فإذا بها الحديقة التى
تبعد خطوات عن الكازينو ، يالها من فرصة للخروج من الأزمة ، فطلب منها أن يجلسان بتلك
الحديقة ولا داعى للكازينو بحجة أنه يجلس عليه بعض شباب الجامعة وهو لا يريد لها
الإحراج بأن يراها أحد معه ، فوافقت والسعادة تكسو قلبها معتقدة أنه بيخاف عليها ،
وهى لا تعلم أن أزمة النقود هى السبب.
هو : بصراحة أنا مش عارف أقول أيه ، مجرد أنك معاية دلوقتى ده حلم ، عمرى
ما كنت أفكر ولو للحظة واحدة أنه يتحقق حتى لو فى خيالى.
ابتسمت ابتسامة رقصت معها كل أشجار الحديقة وقالت : ليه يعنى كل ده.
هو : مش عارف أنا كنت حاسس أنك نجمة منورة السما ، وكل اللى أقدر أعمله أنى
أفضل أبصلك وخلاص وأحلم أنى ألمسك بأيدى ، أنا محستش مرة واحدة إنك واخدة بالك منى
أصلاً ، لحد ما بصراحة تعبت وقلت لنفسى مفيش فايدة ، كفاية لحد كده.
لمياء : عارف أنا حسيت بيك من أول مرة شوفتك فيها ، وكل تصرفاتك كانت باينه
قدامى ، ما أخبيش عليك شباب كتير حاولوا يقربوا منى ويكلمونى ، وأنا ما كنتش بأهتم
، بس لما شوفتك حسيت أن فى حاجة غريبة بتشدنى ليك ، ولما اختفيت فجأة حسيت بجد أن
فى حاجة نقصانى رغم أنى معرفكش ولا اتكلمت معاك خالص ، بس كان فى شعور غريب خلانى
أفكر فيك مش عارفة ليه.
كلماتها ألحان عذبة تستقبلها أذنيه بسعادة بالغة ، وهو فى الحقيقة لم يصدق
أنها له هو وهو من هو ، بفقره الذى أحدث لديه عقدة جعلته يخشى التعامل مع بنى
البشر.
واستفاض فى الحديث معها عن حياته الشخصية وكم يعانى فيها ، وكيف يقضى يومه
، والأماكن التى يفضل التردد عليها ، وهوياته المختلفة ، حتى عرف كل طرف منهما كل
كبيرة وصغيرة عن الطرف الآخر.
وودعها بعد أول لقاء بينهما ، وصعد كعادته فوق السحاب ، حيث يجد الصدق
والصراحة هناك فى حديثه مع نفسه ، فهو رغم جمالها وأناقتها ومشاعرها الصادقة ، لم
يشعر تجاهها بأى عاطفة من الأساس ، مشاعره مصطنعة يغلفها بكلمات لا تمر على قلبه
حتى تكون صادقة ، ولكن لماذا طاردها ما دام لا يشعر تجاهها بأى عاطفة ؟ يبدو أنها
عقدة إثبات الذات ، عقدة فرضها عليه الفقر دفعته ليثبت لنفسه دوماً بأن لا يختلف
عن الآخرين بل يفوقهم أيضاً.
وجه من بعيد يقترب منه ، انتظر ليكتشف من القادم لهذا المكان الذى تعود أن
يكون فيه وحيداً ، أنها أمه جاءته بوجه غاضب ، صرخت فى وجهه ، لأ أنت مش ابنى اللى
أنا ربيته ، أزاى تضحك على بنات الناس ، البنت دى ذنبها أيه فى عقدتك ، حرام عليك
يا ابنى هتروح من ربنا فين لما تكسر قلب واحدة سابت الدنيا كلها واختارتك أنت ، مكنش
فى داعى من الأول تجرى وراها ، استفدت أيه دلوقتى ، عقدتك اتحلت يعنى ، فوق لنفسك
وأخرج بقه من عقدتك دى ، وبعدين لو أنت بتحبها بجد ، أنت شايف أن ممكن الموضوع ده
ينتهى نهاية طبيعية يعنى ، وأنت فى وضعك الحالى فى بداية مشوارك الصعب ده ، وهى زى ما أنت شايف كده جميلة قوى ومن عيلة غنية .
هو : بصى يا أمى.
ولكنها للأسف اختفت من أمامه وتركته يواجه وحده حيرته وحزنه من كلماتها
القاسية مع أنها عين الحقيقة التى حاول أن يهرب منها ، شرد بذهنه والسحاب من حوله
، ليسترجع تلك الأحداث الأخيرة ، فهناك بين شلته بالقاهرة صديقتان سيخسران بعضهما
بعدما اعترفت كل واحدة منهما دون علم الأخرى بحبها له ، فهرب من هذا المأزق دون حل نهائى ليطارد فتاة جامعة الزقازيق وتقع هى الأخرى فى
حبه ، ليزيد الأمر تعقيداً لاسيما وأنه لا يشعر بأى عاطفة تجاه أى واحدة منهن ،
وكل ذلك رغم أنه شاب عادى فى كل شئ من حيث الوسامة أو المظهر الخارجى ، ولكنه
اكتشف أن لديه جاذبية غريبة تجاه الجنس الآخر لا يعرف سببها ، مما أصابه برهبة
كبيرة وأخذ يتجنب لسنوات طويلة الحديث مع هذا الجنس.
أما كيف سيتصرف فى تلك الأزمة ؟ وماذا سيحدث مع الفتيات الثلاث وصديقه
الذى وقع فى غرام واحدة منهن ؟ كلها أحداث سوف تتعرف عليها سيدى القارئ مع صدور
رواية " رجل فوق السحاب " فما تقدم جزء بسيط من " الفصل الثالث
"