بقلم – محمد مقلد
تعودت أن ألقى كل شئ خلف ظهرى ، لأقوم بجولة بين الزراعات ، حيث الخضرة
التى تسر العين ، وأصوات العصافير بلحنها الهادئ الذى يطرب الآذان ، إنها الطبيعة
بفطرتها النقية ووجها البرئ ، تغسل الهموم وتطهر النفس من بقايا النفاق والكذب
والتدليس الذى يحاصرك بفعل التعامل مع شخصيات معظمها للأسف تعودت على ارتداء ثوب
الرياء والنميمة وحب الأنا ، فحرصهم كبير بألا يتوقف قطار مصالحهم الشخصية عن
مسيرته فى دهس المبادئ والأخلاق.
على مرمى البصر رجل طويل القامة يرتدى أفارول متسخ من جراء عمله فى زراعة
الحدائق والعناية بها ، وبدون إرادة منى قادتنى قدماى إليه ، فألقيت عليه السلام
وجلست بجواره ، وبدأ الحوار معه وأنا أبحث عن الأسباب التى رسمت خريطة معقدة من الحزن
على وجهه الذى أصيب بتجاعيد الزمن ، ولما لا وقد وصل إلى محطة الـ 67 عاماً ، أنه
عم فرج ، هذا الرجل الذى تناسى كبر سنه ، ورفع راية التحدى فى وجه الظروف القهرية
، وقرر أن يدخل الصراع مع الحياة المؤلمة ليوفر احتياجاته واحتياجات أسرته مع عالم
لا يرحم ويدهس بأقدامه الغليظة كل الفقراء من أصحاب الحاجة.
الحديث معه بالفعل أذهلنى ، مخارج ألفاظه تجذب الانتباه ، حديثه يعبر عن
رجل يتمتع بثقافة غير محدودة ، أوجعنى بكلامه عن الدنيا وأحوالها ، وضياع الأخلاق
والمبادئ والعادات التى تربينا عليها بين معظم الناس ، كلماته عبرت عن مدى الضيق
الذى يصيبه عندما يتجاهله أصحاب الكرفتات والمظاهر الكدابة من العاملين بنفس
المكان ، ويمرون أمامه دون حتى إلقاء السلام وكأنه تصرف سيقلل منهم ، رغم أن ألقاء
السلام لله تعالى ، ومن شيم المؤمن بأقل مبادئ الإسلام.
استرسل هذا الرجل الطيب فى حديثه معى عن القبائل بجزيرة العرب وبمنطقة
الشام ، وأصول معظم العائلات والقبائل ، بالفعل شعرت وكأننى أجلس مع موسوعة علمية
، وكنز معلومات أنا نفسى أجهله ، وتشعب حديثه فى مجالات متعددة ، ومع ذلك كان
ملم بكافة المعلومات عن أى موضوع تحدث فيه ، مما أكد انطباعى الأول عنه بأنه يصنف من طبقة
المثقفين ، ومع ذلك كان همى الأول ، أن أعود به للحديث عن تعالى وتكبر البعض ممن تعمدوا
تجاهله أثناء مرورهم أمامه وكأنه غير موجود من الأساس ، لأنى بصراحة كنت أريد أن
أسمع منه السبب فى تصرفهم هذا الغير آدمى.
نجحت فى مخططى ، ووجدته يقول ، بص يا أستاذ محمد ، هؤلاء مروا أمامى
واستخسروا إلقاء السلام مع أن السلام لله كما تعرف وليس لى ، طيب ، هأقولك حاجة ، أنا دلوقتى لو ارتديت مثلاً بدلة شيك ، ووقفت
بنفس المكان ومر علىً نفس الأشخاص ، ماذا سيكون موقفهم ، طبعاً أنت عارف من غير ما
أقول ، معنى كده أنهم رفضوا إلقاء السلام على الأفارول ، وكانت تحيتهم وسلامهم
مضاعف للبدلة الشيك ، مثل هؤلاء يا بنى خدعتهم الدنيا واهتموا بالمظهر الخارجى دون
الجوهر ، وأقسم بالله يا أستاذ محمد أنا مش زعلان منهم خالص ، أنا زعلان عليهم.
كلمات عم فرج ، كانت حزينة مؤلمة ، تعكس حال المسلمين والبشر هذه الأيام ،
ولكن ما زاد من حزنى ، مفاجئة عم فرج ، عندما أخبرنى أن معظم من يمرون عليه
ويتجاهلونه ، تتلمذوا على يديه ، فالرجل يا سادة كان يعمل مدرس للدراسات
الاجتماعية للمرحلتين الإعدادية والثانوية ، وعند بلوغه سن التقاعد ومع ظروف
الحياه الصعبة ، أصبح ما يتقاضيه من المعاش لا يكفى احتياجات أسرته ، فى ظل ارتفاع الأسعار الرهيب خلال السنوات الأخيرة ،
مفاجئة عم فرج تلك لخصت كل الأوضاع المتردية التى وصلنا إليها ولا تحتاج لأى تعليق
منى ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وللحديث بقية إذا كان فى العمر بقية.