رواية " رجل فوق السحاب " التى أنشر اليوم جزء من الفصل الأول منها والذى أوشك على الانتهاء ، راوية تحكى عن قصة حياة شخص ما ربما تكون حقيقة أو خيال ، فهى تتضمن أحداث متشابهه مع أشخاص آخرين ، ولكن بها وقائع كثيرة غريبة لم تحدث إلا نادراً جداً وربما لم تحدث من الأساس ، وأنا لدى ثقة كبيرة أن تلك الرواية سيكون لها شأن ربما بعد الانتهاء منها وطباعتها وتوزيعها على المكتبات ، أن تأخذ منحنى آخر تماماً ، وقد قررت أن أنشر مقتطفات صغيرة منها على موقع " عيون الخريف " والسطور التالية تحمل المقتطف الأول
محمد مقلد
الظروف القهرية مهدت الطريق أمامه لحياة صعبة ، أفقدته السند الحقيقى فى
الثالثة من عمره ، فتاهت أقدام الصغير وضلت سبيلها عن طفولته ، وألقت به خلف قضبان
الانطوائية والعزلة الموحشة رغم صغر سنه ، الزيارات ممنوعة ومسموح فقط للمرأة التى
كان لها الفضل فى وجوده بعد الله سبحانه وتعالى ، فكانت هى الأم والأب والإخوة
والأصدقاء ، لا يرى غيرها ولا يشعر بالأمان إلا بين أحضانها الدافئة ، رغم ما كانت
تعانيه من تصرفاته وأفعاله التى رسمها إحساسه بالوحدة ، والفقر الذى فرض الحزن على
عينيه دائماً ، وهو يشاهد من حوله من أطفال يتمتعون بمباهج الدنيا ، والحرمان يقسو
على قلبه الصغير ويدفعه دائماً ليحدث نفسه ، لماذا أنا هكذا ؟ لماذا أختلف عن هؤلاء
الأطفال ؟ هل لأننى فقدت أبى ؟ ولكن ما علاقة ذلك بما أنا فيه الآن ؟ فهناك من
فقدوا آبائهم مثلى ومع ذلك أقبلت عليهم الدنيا واحتضنتهم بين ضلوعها ، وتعاملت
معهم بصورة أفضل منى.
سيطر هذا الشعور القاسى على وجدان الصغير ، ولم يجد مفراً منه إلا بالهرب
لعالم الخيال ، وهو يجلس فوق السحاب لا يرى إلا نفسه حتى الناس اختفوا تماماً ولا
وجود لهم فى ظل مكانه الجديد الذى اختاره ليشعر بوجوده ، وتعود على الخروج من الواقع لهذا العالم
الافتراضى الذى بدا ينموا بداخله عاماً تلو الآخر ، يحمل كل عام منها تفاصيل جديدة
تجيب على التساؤلات التى بدت تتزاحم لترهق عقله الصغير ، حتى أيقن أن 75 جنيهاً
فقط معاشاً شهرياً لأم وخمسة أبناء أمر مرهق وصعب للغاية ، فبأى منطق يكفى هذا
المبلغ الضئيل لتوفير الطعام والملبس والأدوية للعلاج والصرف على تعليم الخمسة أبناء.
منطق قاسى يشاهده يومياً يطل من بين نظرات أمه بعيونها اليائسة الحزينة ،
وما يسمعه من بكاءها الذى يشق سكون الليل ليصعد للسماء ليشكو الحال وقلة الحيلة
لخالق هذا الكون ، وبدأ هذا الصغير كلما ودع عام واستقبل عام جديد ، يفطن لبعض
الأمور التى كانت تمثل لغز محير يرهق عقله ، فعرف سر ترك شقيقه الأصغر للتعليم
والتحاقه بالعمل رغم صغر سنه ، مع أن
الطبيعى أن يكون هو بطل لهذا التصرف ، ولكن وللحقيقة كانت والدته رغم الظروف
المميتة تفضله عن جميع إخوته فى كل شئ ، تحاول أن توفر له ما يحتاجه من أموال قدر
المستطاع للصرف على استكمال تعليمه ، فقد تولد بداخلها الشعور أنه الأذكى بينهم ،
والأمل الوحيد الذى ترى أنه سيحقق حلمها ويرفع رأسها بين الجيران ، فكان بالنسبة
لها الشراع الذى تتشبث به لينقذها من بحر الحزن والفقر التى بدت تصارع أمواجه
العاتيه بعد فقدان رفيق دربها.
لقد أتعبها كثيراً وكان سبباً مباشراً للأمراض التى اخترقت جسدها الذى
أنهكته الحياة الظالمة ، فقد خذلها حبيب قلبها بعدما اكتشفت عدم اهتمامه بالتعليم
رغم ما يتمتع به من ذكاء ، بعدما سيطرت عليه لعبة كرة القدم ، وهى لا تعرف أنه سلك
هذا الطريق لعله يجد بأسرع وقت وسيلته التى تساعده على تحطيم قضبان الفقر والحرمان
، فطريق التعليم طويل ويحتاج الكثير من المال والجهد ، وزيادة الأعباء على أسرة
تقسوا عليها الحياة ، فأخذ يجوب المحافظات رغم سنه الذى لا يتعدى الـ 12 عاماً
، بحثاً عن الالتحاق بأحد الأندية ليرسم
أولى خطوات تحقيق حلمه ، ليكون لاعب كرة مشهور ، ولكن من أين يهرب من عدوه الأول
الذى يطارده حتى فى منامه ، والذى وقف حائلاً أمامه وأفشل كل محاولاته ، فبداية
الطريق صعبة وتحتاج أيضاً للمال من أجل السفر والعودة وغيرها من المتطلبات الشخصية
، فضلاً عن الحاح والدته بدموع لا تتوقف لترك اللهث وراء الكرة والتركيز فى
استكمال تعليمه.
اتخذ قراراً بأن يسير بشكل متوازى بين اشباع رغبته فى لعب كرة القدم ، والاهتمام بعض الشئ بتعليمه ليحقق آمال والدته ، التى لولاها لترك التعليم وألقاه خلف ظهره دون رجعة ، ورغم سيطرة الكرة على كيانه ، تمكن بفضل الله ودعوات والدته من اجتياز المرحلة الإعدادية ، رغم قلة ساعات المذاكرة التى لم تتعدى الساعة الواحدة فى اليوم حتى فى أيام الامتحانات نفسها ، فالتعليم بالنسبة له شئ ثانوى لا يشغل تفكيره بالشكل الذى يجعله يحقق فيه نتائج تتناسب مع ذكائه ، وحصل على مجموع مناسب يمكنه من الالتحاق بالثانوية العامة ، ولن ينس أبداً يوم اعلان النتيجة ووالدته تسير فى الشارع مرفوعة الرأس تتباهى بين الجيران بنجلها ، بعدما عانت كثيراً من سهام كلام الجيران عنه التى كانت تدمى قلبها حزناً وألماً ، من نوعية " ولد فاشل لا مستقبل له لعدم اهتمامه بالتعليم وإهماله لمذاكرة دروسه " .
وجاء أقوى صراع بينه وبين والدته ، فهو كان يميل إلى الالتحاق بأحد مدارس
الدبلومات الفنية ، فهو يرى أنه بذلك سيضرب أكثر من عصفور بحجر واحد ، فالمدرسة
الفنية لن تعيقه عن استكمال البحث عن تحقيق حلمه فى كرة القدم ، بينما السبب الأهم
الذى سيطر عليه ودفعه للتفكير فى هذا الاتجاه ، العدو الذى لازمه فى كل خطوة من
خطوات حياته ، فهو لا يريد أن تتحمل والدته فوق طاقتها ، فمن أين توفر تكاليف
الدروس وخلافه ؟ ، فضلاً عن زيادة عدد سنوات التعليم بالتعليم الجامعى الأكثر ارهاقاً
من الناحية المادية ، فتصدت دموع والدته لما خطط له ، فألتحق بالثانوية العامة
لتحقيق رغبة والدته وفقط ، رغم ما يحيط بها من مشقة وطريق صعب سيؤثر على الأسرة
وجميع أشقائه.
ورغم دخوله لمرحلة جديدة فى حياته ، ولكنه فشل فى التخلص من الانطوائية
والعزلة التى أحكمت قبضتها عليه بشكل صارم منذ نعومة أظافره ، واستمر فى عادته
الخيالية بالصعود للسماء والجلوس فوق السحاب حتى لا يرى الناس من حوله وكأنهم
أعدائه ، ولكن تلك العادات لم تمنعه من أن يصل للمرحلة الأخيرة من الشهادة
الثانوية ، وكان بالشارع الذى يقطن فيه أربعة فتيات فى نفس المرحلة التعليمية ،
وتوقع جميع الجيران كعادتهم أن يسقط فى بئر الضياع ، فمن أين لهذا الشاب المستهتر
أن يجتاز امتحانات تلك الشهادة الصعبة ، مع تعوده أن يهدر وقته ليلة كل امتحان فى
لعب الكرة ، حتى عاشت أمه أثناء الامتحانات مشقة ما بعدها مشقة وأرهقها بصورة كانت
الأصعب طوال حياتها.
ويوم إعلان النتيجة ، وقفت والدته على رأسه ، ليستيقظ من نومه ليتوجه
للمدرسة لمعرفة نتيجته ، وهى تخبره بأن الفتيات الأربعة فى شارعهم نجحن وتحولت
منازلهن إلى أفراح تعلوها الزغاريد ، فتوجه للمدرسة بلامبالاة وكأن النتيجة لا
تعنيه فى شئ ، علماً بأن والدته على شفا فقدان حياتها خوفاً على مصيره ، وعاد
للمنزل ليرى مشهد إلى الآن محفور داخل عقله ووجدانه وقلبه وروحه ، من المستحيل أن
ينساه حتى بعد مماته ، مشهد يلخص لماذا كرر الرسول الكريم ثلاث مرات فى حديثه الشريف
، بأن الأم لابد أن تكون أحب وأقرب شخص لأى انسان على وجه الأرض.
فإذا بها والدته تفترش الأرض أمام المنزل ، ويديها تحكم قبضتها على رأسها ،
وعينيها تذرف دموع لا تنقطع ، وتبدو
وكأنها صنعت بحيرة من الدموع ، ودعائها لا ينقطع ، ومشهد لهفتها عندما رأته أمامها
لا توجد كلمات فى معاجم اللغة لوصفه كما حدث فى الواقع ، وبمجرد أن أخبرها بنجاحه
، كادت أن تسقط على الأرض من فرط الفرحة لاسيما بعدما تخطى مجموعه الفتيات
الأربعة ، فأمسك بها وطلب منها أن تهدأ ،
فلملمت نفسها بالكاد لتجوب الشارع وكأنها فقدت عقلها ، وهى تصرخ وتردد جملة واحدة
، جملة رغم قسوتها يعتز بكل حرفاً منها ، جملة خرجت من بين شفتيها وكأنها سلاح
للثأر من كل شخص حاول أن يقلل من شأن أبنها " أهو الصايع نجح يا ولاد "
وبصراحة كل الجيران أصيبوا بالذهول لأن نتيجته كانت عكس كل التوقعات ، ليس لأنه
حصل على مجموع كبير فمجموعه كان فى المتوسط ولكن مجرد نجاحه مع عدم اهتمامه
بالمذاكرة وتخطيه كل من معه بنفس المرحلة بشارعهم أمر بالفعل كان غريباً.
وللحديث بقية إذا كان فى العمر بقية