يوميات فاهم أفندى
عاد فاهم أفندى كعادته يومياً فى الفترة الأخيرة من عمله مهموماً ، يسيطر
الحزن عليه بصورة جعلته لا يرى من حوله ، ولم يلق حتى السلام على محروس البقال أعز
أصدقائه ، وكأنه لا يراه ، وبمجرد أن دخل
منزله ، ألقى بجسده المنهك على أول كرسى قابله ، وسقطت رأسه رغماً عنه بين كفيه ،
وعينيه تراقب شيئاً ما بين قدميه ، فإذا به جرس الباب يلاحقه ، فنادى بصوت مكبوت
دون أن يعدل من وضعه ، تعالى يا محروس الباب مفتوح.
فدخل محروس وفوجئ بصديق عمره فى تلك الوضعية التى تعكس مدى ما يشعر به من
ألم ومرارة ، فبادره بالسؤال ، أيه مالك يا فاهم يا أخويا ؟ وكرر سؤاله عدة مرات ،
دون أن تسمع أذنيه أى إجابة من صديقه ، فاقترب منه ورفع رأسه وهو يكرر نفس السؤال
، مالك يا... ، وقبل أن يكمل سؤاله هذه المرة تسمر لسانه بعدما فوجئت عيناه بدموع
صديقه وهى تتمايل ببطئ على خديه ، يييييا أنت بتعيط يا فاهم ، أيه اللى جرى يا
فاهم مالك.
وبعد أن تخلص فاهم من دموعه ، بدأ يعيد بعض الذكريات مع محروس ، فاكر يا محروس
أول يوم أتوظفت فيه ، فاكر أنا قلتلك أيه وأنت كنت فرحان قوى ، قلتلك وقتها أنا مش
بتاع وظيفة ده مجتمع غريب عليه وخايف منه ، فقاطعه محروس أيوه فاكر ، ووقتها قلتلى
دى حبسه يا عم وكلها قرف ووجع قلب وطبيعة شخصيتك مش هتتأقلم على جو الوظيفة خالص ،
وعايزه تعامل خاص مع بشر مختلفة فى الطباع والأخلاق ، وأنا ساعتها شجعتك وقلتلك ياعم خليها على الله هو حد طايل.
كويس إنك فاكر كل حاجة يا محروس ، أهو اللى كنت خايف منه لقيته وأسوأ مما
كنت أتوقع ، بصراحة يا محروس ملعون أبو الوظيفة لو كانت بالشكل ده ، أنا فى حياتى
مشفتش كده أبداً ، عارف المشكلة فين يا محروس ، المشكلة أن معظم الموظفين فى
الشركات والمديريات المختلفة وغيرها
مبيعملوش حاجة خالص ، وقاعدين ساعات طويلة مش وراهم غير النميمة والوقيعة بين
زملائهم ، وأساتذة فى نصب المؤامرات والحيل ومش عارف ليه.
المصيبة يا محروس أنك عشان تتأقلم فى جو الوظيفة ده ، لازم تكون مؤهل ليها
وتتمتع ببعض الصفات الخاصة عشان تقدر تكمل سنوات سجنك فيها ، فأنا من وجهة نظرى
إنها سجن كبير بيضيع نص عمر الإنسان على الفاضى ، فقاطعه محروس قائلاً ، صفات ،
صفات أيه دى ..... ، فرد عليه فاهم بقوله ، خد عندك يا سيدى ، أول حاجة لازم تكون بارع فى ارتداء أقنعة الرياء ، وتبقه استاذ فى النفاق
والكذب ، وأوعى تنسى أنك تكون متميز فى النميمة ونقل الكلام والتجسس على زملائك ، وأنا لو مسئول أغير مسميات رؤساء الأقسام ومديرى
الإدارات الخاصة بالوظيفة ، فيكون هناك
مدير إدارة النفاق ، ومدير إدارة الكذب وخدمات التضليل ، ورئيس قسم العصافير ،
ومدير إدارة الضرب من تحت الحزام ، ورئيس قسم التلقيح بالكلام ، ومدير إدارة دلعنى
يا.
حديث فاهم أفندى جعل محروس البقال فى حالة ذهول الدهشة تكسو وجهه ، فسأل
صديقه وهو منزعج ، بجد الكلام اللى أنت بتقوله ده يا فاهم ...... بجد ، بجد أيه يا
محروس ده اللى أنت سمعته ده ميجيش واحد فى المليون من اللى الواحد بيشوفه ، يا
راجل دى وصلت أن بعضهم عشان يثبتوا أنهم أصحاب حق بيقسموا بالله وبكتابه وهم على
يقين بأنهم كذابين ، شفت وصلت لحد فين يا محروس ، يا أخى ملعون أبو الوظيفة اللى
توصلنا لكده ، وواحد تانى تلقيه لسه كان قاعد ياكل مع زميله ويدوب يسيبه ويمشى وأول
واحد يقابله تلقيه بيقطع فى فروته ولا أكنه كان قاعد معاه أصلاً ، هو فى أسوأ من
كده يا أخى.
أنت عارف يا محروس ، الخيبة الكبيرة ، أنك ممكن تكون فى مكتبك مع زملائك ،
وهاتك يا ضحك وهزار مع بعض ، ويدوب تطلع من باب المكتب تلاقى سيمفونية التقطيع فيك
شغالة ، ولما ترجع تلقيهم بصوت لا يكاد يخرج من أفواههم " خلاص خلاص ، عشان
جاى أو جاية " وخد عندك بقه أساليب
التلقيح بالكلام بين زملاء المؤسسة
الواحدة ، لا يا أخى وتلقيهم فى توجيه الاتهامات لرئيس شركتهم أو وكيل الوزارة
بتاعهم زى القطر ، وكأنهم ملائكة سقطوا غفوة من السماء ، يا محروس يا أخويا ده فى
حاجات تانية كتير عيب الواحد يتكلم فيها ، هبقه أقولك عليها بعدين.
المشكلة يا محروس ، أنا لما دخلت عالم الوظيفة كنت بأحاول قدر المستطاع أن
أحافظ على طباعى ومبادئ شخصيتى لأقصى درجة ، ولكنى وللأسف فشلت وسقطت مثلى مثلهم
فى الوحل ، وتشوهت صورتى وضاعت سمعتى التى كنت أعيش عليها ، وعندما استفقت مما أنا
فيه ، بدأت رحلة اعادة نفسى التى ضاعت منى وسط أدغال تلك الغابة التى لا ترحم ،
ولكن كيف وأنت مجبر أن تعيش وسط هؤلاء ، ومجبر أن تشاهد وجوه لا تريد أن تراها ،
وتتعامل مع شخصيات أنت تعرف جيداً مدى كذبهم ونفاقهم ، وهذا لا يمنع أن هناك
شخصيات بالفعل محترمة ولها مبادئ ما زالت تحافظ عليها ، ولكنهم قلة للأسف الشديد.
أنت عارف يا محروس ، أنا كنت بأحلم أن الزملاء فى المؤسسة الواحدة يجمع
بينهم الحب والمودة والاحترام المتبادل ،
والتمسك بمبدأ " حب لأخيك كما تحب لنفسك " ، فزملاء الوظيفة يقضون مع بعضهم البعض أوقات
طويلة ربما تفوق الأوقات التى يقضونها مع أسرهم وعائلتهم ، ويؤمنون بأن كل شئ نصيب
وكل ما يحدث لهم كله من تقدير الله سبحانه وتعالى ، وأثناء حديث فاهم أفندى ، ابتسم محروس ابتسامة
غريبة ، ونهض من مكانه ، وقال لصديقه " عن أذنك يا فاهم الدكان لوحده "
، وأثناء مغادرته ، نظر له فاهم وهو يتمتم ، يا بختك يا محروس.