بقلم – محمد مقلد
عاش حياته منطوياً بعيداً عن الناس ، ظروف نشأته الأسرية
أثرت بشكل واضح على سلوكه وشخصيته ، ونمت بداخله حالة من الخوف دفعته لعدم الانخراط
فى المجتمع والتعامل مع الغير ، وظل يصارع هذا المجتمع وإلغاء فكرة التكيف معه ومع
أفراده من عقله بشكل صارم .
ظل صاحبنا هكذا ، داخل حلبة الصراع مع أعاصير الحياة ،
وحيداً منفرداً ، لا يبالى بما يدور حوله ، دائماً ما يفشى بأسراره ومشاعره
المتباينة بين الفرح والحزن لنفسه فقط ، حتى أصبحت هى الصديق الأقرب لقلبه.
ومع تحرك قطار العمر والوصول لمحطات تدفعه رغماً عنه للتنازل
ولو عن جزء ضئيل من عزلته ، وتجبره على التعامل مع فصيل معين من الناس ، فضل أن
يظل محتفظاً بسلوكه الانطوائي ، فهو قليل الكلام مهما كانت أهمية موضوع الحوار مع
الآخرين ، فلم يجهد عقله للتعبير عن رأيه فى مثل هذه الأمور ويحتفظ به لنفسه ، لا
يميل للجدال والاختلاف حتى فى وجهات النظر ، وأسقط من قاموس حياته العبارة الشهيرة " الاختلاف فى الرأى لا
يفسد للود قضية " فهو رافض للرأى الآخر مهما كانت رجاحته ، فقد سيطرت عليه
أنانية التفكير، فما يصدر عن عقله هو الصواب دون نقاش ، وغير ذلك لا يجدى بالنسبة
له مهما كانت الآراء من حوله.
أنه فاقد الثقة فى المجتمع بالكامل ، لا يثق فى أفراده ، لا يثق فى الأحداث
التى تدور من حوله مهما كانت حقيقتها ، نشأته الاجتماعية فرضت عليه أن يعيش خلف
أسوار حديدية حصينة ، وأبواب مغلقة جميع مفاتيحها ملقاة فى قعر بئر عميق يستحيل
على أى شخص أن يصل إليها.
عندما تجده بين الناس ، تشعر أنه شارد الذهن ، أذنية لا تسمع أى شئ من
كلامهم ، وعينيه هاربة دائماً منهم ، وعقله لا يستوعب أحاديثهم ، لأنه ببساطة لا
يشغل نفسه بهذا كله ، وفى الغالب يكون منشغل بالتفكير فى أمور بعيدة تماماً عنهم ،
وكأنه بالفعل معزولاً غير متواجد بينهم ، وربما لو سأله أحدهم عن أى أمر متعلق
بحوارهم ، ستجده كان فى عالم آخر ، لا يعرف أى شئ مهما كانت أهمية وقيمة هذا
الحوار .
ولكن متى يزيل صاحبنا هذا الخوف الذى ترسخ فى أعماقه ؟ وهل سيظل طوال حياته
يعيش وحيداً منفرداً هكذا ؟ فظروف الحياة وديناميكيتها ستضعه بشكل أو بآخر فى حيز
معين ، تجعل الاتهامات تحاصره بأنه مغرور ، يحتقر المجتمع بالكامل ويتعالى على
أفراده.
ومن الطبيعى أن يدخل فى صراع دائم مع نفسه ، نفسه التى ربما تكون قاسية
عليه ، ناقمة على تصرفاته الانطوائية ، وتركيبته السلوكية المعقدة ، تحاول معه
وتستجديه أن يحطم هذه القيود ، ويفتح تلك الأبواب المغلقة ، ويمنحها الفرصة
للانفتاح على الآخرين والتعايش بشكل كامل مع المجتمع وأفراده ، وطرد الخوف من قلبه
وتغيير نظرته التى تكونت بداخله لبنى البشر.
ووسط احتدام الصراع والهواجس النفسية التى تطارده ، يصل قطار عمره إلى محطة
" دقة قلب " فبمجرد أن شاهدتها عيناه خفق قلبه ، وانتابه شعور غريب لم
يتعرض له طوال حياته ، ارتسمت أمامه صورتها بوجهها الهادئ ، لتظل تحجب عنه رؤية أى
شيئاً آخر ، وعينان تعكس أمواج تصارع بعضها البعض تبتلع من يحاول أن يستغرق برهة
من الوقت ينظر إليها ، وروح تمطى جواد يركض بخفة ورشاقة بين أجمل مشاهد الطبيعة.
وهنا يبدأ أقوى صراع يتعرض له ، فالنفس رافضة ويتضامن معها العقل ، والقلب
يقاوم ، هى تحاول أن تبعده عن طريق سيجلب له المتاعب والمشقة والألم ، وهو يفتح
أبوابه ، رافع راية العصيان فى وجه نفسه وقلبه ، لديه إصرار على أن يحتضن فرحته ، ويغير
نغمة دقاته لتحمل حروف اسمها ، فتصل نفسه لمرحلة اليأس فى اقناعه ، وتتركه يفعل ما
يشاء مع أمنياتها له بحياة سعيدة ولسان حالها يقول له " عش كيفما شئت ولكن
أرجوك لا تجلب لى الحزن والألم "