يوميات فاهم أفندى
فاهم أفندى عاد من عمله مهموماً ، الحزن يكسو وجهه ،
وعندما دخل منزله لم يتوجه كعادته لحجرته لتغيير ملابسه ، وجلس أمام التلفاز ،
يتابع أخبار حرب إسرائيل على قطاع غزة ، ولكن بدون تركيز كامل مع الأخبار ، لانشغال
ذهنه بأمر أصابه بالإحباط والألم ، وبينما هو منشغل بالتفكير العميق ، رن الجرس ،
فتمتم وهو ينهض لفتح الباب ، ده أكيد محروس ، وفعلاً صدق ظنه وإذا به صديقه محروس
البقال ، أزيك يا فاهم يا أخويا عامل أيه ، الحمد لله يا محروس تعالى أدخل.
فقرأ محروس على وجه صديقه فاهم ، أن هناك أمر ما يصيبه
بالحزن ، فبادر بسؤاله ، مالك يا فاهم فى حاجة ضيقتك فى الشغل ولا أيه ، أنت مش
طبيعى النهاردة مالك فيه أيه ، أسكت يا محروس ، النهاردة الصبح وأنا رايح الشغل ،
شفت منظر مأسوى بجد حاجة تحزن يا أخى ، أيه خير يا فاهم شفت أيه.
وبدأ فاهم يقص لصديقه ما شاهده ، أنت عارف أنا كل يوم
باخد كيس الزبالة معاية وأنا رايح الشغل عشان أرمية فى الصندوق ، وعند الصندوق
فوجئت بسيدتين يتبادلان السباب فيما بينهما بصورة توحى لك بأن بينهما عداء شديد ،
فأسرعت نحوهما لأفض هذا العراك ، والذى بدأ يصل لحد التشابك بالأيدى ، ولولا أن
هذا التوقيت الكل منشغل بالذهاب لعمله لأكتظ المكان بالمواطنين كما هى عادة
المصريين فى مثل هذه المواقف.
المشكلة يا محروس ، أن شجارهم كان غريب بجد ، كأن كل
سيدة منهما تدافع عن حق سلبته منها الأخرى واستولت عليه وتحاول استرداده منها ،
وفجأة صمت فاهم عن الكلام ، وبدا على وجهه الحسرة ، ومحروس منشغل بأن يستكمل له
فاهم القصة ليعرف السبب فى هذا الشجار ، وبعدين يا فاهم أيه اللى حصل.
تخيل يا محروس كل الخناقة دى عشان كيس زبالة به كمية من
العيش وقطعة جبنه وبقايا جرجير ، تخيل يا أخى احنا وصلنا لفين ، هيموتوا بعض عشان
كيس مرمى فى الزبالة ، عموماً ربنا وفقنى وقدرت أفض الخناقة بينهما.
واسترسلت فى الحديث معهما ، حتى عرفت أن احداهما فى
العقد الرابع من العمر متزوجة من شخص أقعده مرض الفشل الكلوى ولديها خمسة أبناء ،
ولا دخل لهم إلا من أجر أبنها الذى يعمل فى أحد المخابز ، وطبعاً مع الظروف الصعبة
هذه الأيام ، بدأت تعانى كثيراً فى توفير الطعام لأبنائها وزوجها المريض ،
وأذهلتنى والله يا محروس ، عندما أكدت أنها تعودت خلال الأيام الأخيرة على جلب
بقايا الطعام من صناديق الزبالة لتطعم أبنائها.
وكانت صدمتى كبيرة يا محروس ، عندما قالت لى ، تصدق يا
أستاذ أحنا من امبارح مكلناش خالص ، مفيش فلوس ومفيش أكل ، ومديت أيدى للى يسوى
وميسوش ، بس الناس معهاش حاجة أصلاً للغلابة اللى زينا ، أعمل أية بس يا استاذ
وأنا عندى خمس عيال منهم بنت 8 سنين وأخوها الصغير 5 سنين ، وكل شوية "
جعانين يا أمى " وعياط وصراخ طول النهار ، أعمل أيه بس يا ناس أموتهم وارتاح
منهم خالص ، طب أجيب منين وأروح لمين ، والله يا استاذ أنا شفت الكيس قبلها وجيت
أخده لقيتها بتشدو من أيدى ، أنا ما صدقت لقيته وقلت لنفسى يا فرج الله رزق البت
والواد ، وان كان علينا احنا كبار نتحمل لحد ما ربنا يفرجها علينا ، ملناش غيره
يرحمنا من الذل اللى احنا فيه ده.
فقاطعه محروس وهو مذهول من هول ما سمع ، حزين من هذا
الحال الذى وصل أليه بعض الناس ، أنت بتتكلم جد يا فاهم ، ده حصل قدامك ، فأقسم له
فاهم بأنه عاصر تلك القصة وكان شاهد عيان عليها فى الصباح.
وتابع فاهم حديثه ، أما الست التانية يا محروس فى أواخر
العقد الثالث من العمر ، توفى زوجها وترك لها حمل كبير ، 3 أبناء أكبرهم 14 سنة ،
وليس لديهم أى مصدر للرزق غير 450 جنيه فقط من معاش الكرامة ، بخلاف أهل الخير
الذين استرأفوا بحالهم وكانوا يمدون يد العون لهم ، ولكن حسب كلامها يا محروس
انتهت تلك المساعدات ومحدش قادر يساعد غيره.
أنت عارف يا محروس ، أقسم بالله يا أخى أن دموعى نزلت
لما الست دى قلتلى ، احنا بقالنا 4 شهور مدقناش طعم اللحمة ، وابنها الصغير كل
شوية يقولها ، أنا نفسى فى اللحمة يا أمى ، مما دفها للتوجه لأحد الجزارين تستعطفه
ليعطيها ولو قطعة واحدة لأبنها ، ولكن هذا الجزار للأسف لم يسترأف بحالها وضاعت
الشفقة من قلبه ، فطردها من المحل ولم يبالى بتوسلاتها ودموعها.
فسكت فاهم عن الكلام فجأة ، وأخذ ينظر للأرض ويديه تعصب
جبهته ، والدموع تتساقط من عينيه ببطئ لتنظف حذائه ، وبدأ يردد وكأنه يوجه حديثه
لنفسه وليس لمحروس ، يا ريت بإيدى حاجة ، يا ريت كنت أقدر أساعد الناس المحتاجة دى
، فين بس يا عالم الإسلام ، فين الرحمة ، فين القلوب الطيبة ، أيه الزمن الأغبر
اللى احنا عايشين فيه ده ، هى وصلت الناس تتخانق على الأكل اللى فى الزبالة ، أمال الكلاب تتخانق على أيه بس ، حسبى الله ونعم الوكيل ، حسبى الله ونعم الوكيل.
ورفع فاهم رأسه ليستكمل حديثه مع محروس ، عارف يا محروس
، ولكن أين هو محروس ، لقد غادر حزيناً متأثراً بكلام صديقه ، فبدأ فاهم يخلع
حذائه وهم يتمتم " رحمك الله يا عمر ،، رحمة الله عليك يا خليل رسول الله ، اللهم
أرحمنا وخفف عن عبادك أحزانهم وآلامهم ، اللهم أمين.