بقلم – محمد مقلد
قادتنى الظروف إلى التواجد فى أحد الأماكن المكتظة بعض الشئ بالمواطنين ،
وإذا بى جالس أتأمل الناس من حولى ، وغارق بعقلى فى محيط موضوعات عديدة تشغلنى هذه
الأيام ، جعلتنى لا أشعر بأحد وكأنى انتقلت لعالم آخر ، ولكن سرعان ما عدت للواقع على خطوات عكاز
يتناقل ببطئ على الأرض ، فانتقلت بعيناى لأعلى لأكتشف من صاحب تلك الخطوات ، فإذا
بها أمرأة عجوز ، ملامح وجهها تعبر على مدى الحسن والجمال التى كانت تتمتع بهما فى
شبابها.
جلست بالقرب منى وبدا الحزن يكسو معالم وجهها ، وعينيها تبدو ككتاب يسطر حياة
مليئة بالأحداث المتباينة ، ووجدت نفسى رغماً عنى منشغل بمراقبتها دون أن تشعر بى
، ودقائق معدودة وشردت بذهنها وكأنها تسترجع وقائع من الماضى مرت عليها وعاشت فيها
، وإذا بالأحمرار يصيب عينيها ذات اللون الرمادى ، والدموع تطل برأسها من خلف
ستارها تكاد تنفجر لولا خشيتها من نظرة الناس إليها.
ورغم الحالة البائسة التى سيطرت عليها ، لاحظت أنها بين الحين والآخر تصوب
نظرها إلى بشكل واضح ، دفعتنى لأهرب بعيونى عنها ، حتى فاجئتنى بالسؤال ، أنت اسمك
محمد مقلد؟ قلت لها أيوه أنا محمد مقلد ، أنت شغال فى الصحافة صح ؟ قلت لها أيوه
أنا ، ففوجئت بحديثها ، على فكرة أنا متبعاك كويس قوى وبالذات مقالاتك الاجتماعية
، وزوجى رحمة الله عليه كان من أشد المعجبين بيك لما كنت بتكتب فى جورنال "
آفاق عربية "
بصراحة شديدة لقد أدهشنى حديثها ، لا سيما عندما وجدتها تسألنى ، بس أنت
ليه فى الفترة الأخيرة مكتر من المقالات عن الحب ، أنا طول عمرى عارفة أنك بتكتب
فى السياسة وبس ، وبدأت تسترسل فى حديثها عن مقالات الحب ، تعرف يا استاذ محمد أنت
مقالاتك دى فكرتنى بأجمل أيام عمرى ، اللى أنا ضيعتها بعنجهيتى وغرورى ، وأخذت
تسرد قصتها لى وكأنها تعرفنى منذ سنوات طويلة.
أنا أصلاً من مركز طلخا بمحافظة الدقهلية ، عندى 63 سنة دلوقتى ، كنت فى
شبابى فائقة الجمال وأنيقة فى ملابسى لأقصى حد ، ومن المستحيل أن أميل للحديث مع
أى شاب مهما كان ، تقدر تقول كده كنت شايفه نفسى حبتين ، ولما دخلت كلية الآداب
قسم تاريخ بجامعة المنصورة ، كنت من أجمل بنات الجامعة ، يتهافت على الطلاب لمجرد
الحديث معى ولو لثوانى معدودة ، وكان فى نفس المكان الذى أسكن فيه شاب يكبرنى
بأربعة أعوام ، طالب بكلية التربية قسم انجليزى.
كان يحبنى بجنون ، يلاحقنى فى كل مكان أذهب إليه كنت أراه أمامى بصفة
مستمرة ، ويكتفى بالنظر لى فقط دون أن يحاول أن يقترب منى أو يتحدث معى ، وأنا
بصراحة كنت أشعر به وبحبه الكبير الذى يحمله داخل قلبه ، ومخبيش عليك يا استاذ
محمد قلبى بدأ يميل له وكل يوم كنت فعلاً أريد أن أراه ، لكن عقلى كان يرفضه بعد أن
سيطرة نفسى على كل مشاعرى وأصبحت بلا عاطفة حقيقية ، فكل همى أنا ارتبط بإنسان
صاحب مركز مرموق ينتشلنى معه لطبقة اجتماعية راقية.
وفى أحد الأيام فوجئت بالشاب الذى يعشقنى يستوقفنى فى الطريق ، ويقول بدون
تردد " أنا بحبك " وقبل أن يزيد فى حديثه صدمته بردى " أنا مبفكرش
فى الكلام الفارغ ده ، وحتى لو فكرت مش ممكن أفكر فى واحد زيك " وتركته
وانصرفت وأنا أشعر بغصة فى قلبى بعدما انتصرت نفسى المتسلطة على قلبى ، وأحرجت
الانسان الوحيد الذى حرك مشاعرى دون أن يسيئ لى على الإطلاق ، ورغم ذلك فوجئت به
يستمر فى ملاحقته لى ، وأنا فى غاية السعادة ، فكنت أخشى أن يغضب من كلامى ويبتعد
دون رجعة.
وتوالت الأحداث حسب روايتها ، وتقدم لخطبتها مهندس يعمل بمحافظة السويس ،
وتزوجت وانتقلت للحياة معه وأقامت فى أرقى الأماكن بالسويس ، وعاشت معه حياة رغدة
، ومع كل ذلك أكدت أن الشاب الذى عشقها كان يطاردها فى حياتها تتذكر كل أفعاله ،
نظراته ، تحركاته ، لدرجة أن زوجها عانى معها خلال العام الأول للزواج ، ولكنها
تمكنت من التأقلم على الحياة الجديدة وانجبت بنتين ، احداهما تزوجت وانتقلت للعيش
مع زوجها بمدينة دبى بالإمارات ، والثانية سافرت مع زوجها للسويد.
وعند الحديث عن ابنتيها ، فتحت أبواب عينيها للدموع لكى تنطلق لتعبر عن مدى
الألم والأسى ، وبنبرة حزينة قالت ، تصدق يا استاذ محمد ، بقالى 6 سنوات مشفتش
بناتى ، ويكتفيان فقط بالسؤال عنى خلال المناسبات وبالتليفون ، وأظاهر كده استخسرا
حتى الاطمئنان على أمهم بالتليفون ، ومرعام كامل دون أن أسمع صوت واحدة منهما ، والله فكرت أكتب كل أملاكى للجمعيات الخيرية
وأحرمهم من التمتع ولو بمليم واحد من فلوسى ، ولكن قلبى لم يطاوعنى على ذلك.
وكانت المفاجئة عندما أكدت لى أن الزمن لو عاد بها لتمسكت بالشاب الذى
عشقها ، وارتبطت به مهما كانت المعاناة ، فبادرتها بالسؤال ، طيب لو ظهر دلوقتى تتجوزيه
، وقبل حتى أن انهى سؤالى أجابت مسرعة ، طبعاً سأتزوجه بدون تفكير ، ويكفى أننى
سأقضى ما تبقى من عمرى وسأموت وأنا بالقرب من الانسان الوحيد الذى أحبنى وأحببته ،
وأضعته من يدى بسبب عنادى وتطلعاتى التى حكمت على أن أعيش حياة رتيبة ، وأفنيت
عمرى مع زوج جسد بلا روح.
انتهى حديثها وأوقفت لها سيارة " تاكسي " وحملت احتياجاتها
ووضعتها بالتاكسى ، وذلك عقب تبادل أرقام الهواتف بينى وبينها ، لأكون جنبها فى أى
وقت تحتاج فيه للمساعدة أو قضاء أى حاجة لها ، لاسيما وأنها تفتقد أى أقارب بالسويس
، وانطلق التاكسى ووقفت أنا مذهول اراقبه حتى اختفى ، وأنا أسأل نفسى ، من هذه
المرأة ؟