بقلم - محمد مقلد
جلست بين الأطلال تلقى برأسها على صخرة كبيرة خلفها الدمار ، تتوجع من آلام
حملها ، ظلت عينيها مترددة ما بين النعاس ومراقبة ما يدور حولها ، تارة تغلقها مع
اختفاء أصوات الطائرات والانفجارات التى تدوى فى كل مكان ، وتارة أخرى عيناها
تلاحق الدمار ويديها تحاول أن تحمى جنينها من جراء الشظايا التى تتساقط كالمطر ،
ومع اقتراب الفجر غلف السكون المنطقة وبدت وكأنها فى صحراء جرداء ، فسمعت نبرات
صوته الحزين وهى تنادى عليها " أمى .... يا أمى " فتملكها الخوف ، ما
هذا الصوت ، أنه يخرج من أحشائى ، هل هذا معقول؟ كيف يتحدث جنين من خلف جدار الرحم
؟
وقبل أن يصاب عقلها من تزاحم الأسئلة الغامضة ، شعرت به يتحرك ، نعم يا أمى
لا تندهشى أنا من أتحدث أليكى ، لا تقلقى أمى ، فكل ما يحدث عندكم يجعل الحجر
يتكلم ، أسمعينى قبل فوات الأوان ، أرجوكى يا أمى أقتلينى ، فاستفاقت من الخيال
وأيقنت أنها أمام حقيقة وأن جنينها يتحدث أليها بالفعل ، فسارعت غاضبة لترفض طلبه
" لا يا بنى أنت ابنى وأنا لا أريد أن أغضب الله تعالى " ، فكرر طلبه
أكثر من مرة حتى أصبح ممزوجاً بصوت بكاءه المكتوم " أرجوكى يا أمى أقتلينى
" ، فحاولت أن تخفف عليه حزنه ، " لا يا بنى فأنت لم تبدأ حياتك بعد ،
والمستقبل كله أمامك ، والدنيا تفتح ذراعيها لاستقبالك "
فتنهد الجنين بعد سماع كلام أمه تنهيده كادت أن تنفجر معها أحشاءها ، وبدا يتمتم " الحياة – الدنيا –
المستقبل " ، يا أمى نحن هنا نولد حتى نموت قبل أن نعرف ما هو معنى الحياة ،
المستقبل كلمة حذفوها من معجمنا ، كل دورنا فى الدنيا أن نخرج للحياة لنلتحق
بآبائنا وأجدادنا فى القبور ، أعرف أنك تحبينى جداً وتنتظري رؤيتي بفارغ الصبر ،
خففى عن نفسك الصدمة والحزن والألم ، فإذا فقدتينى قبل أن ترينى ، حزنك سيكون أخف
وطأة من فقدى بعد أيام معدودة من ضمى لصدرك واكتشاف ملامحى بما تحمله من تغيير
معالمها ، حين أبكى أو ابتسم ووقت الحزن أو
السعادة ، أنقذى نفسك وأرحمى جنينك.
أريدك يا أمى أن تجيبيني ، أين أولد وجميع المستشفيات تحولت لركام ، و إذا
ولدت فأين المنزل الذى سيستقبلنى وها أنت الآن تنامين وسط الأطلال ، وأين الوطن
الذى سأعيش فيه وأنتم مشتتون مطرودون من أرضكم ، أعرف أنك الآن تقولين أنت مسلم
ويجب أن تؤمن بقدرة الله ، حتى الإسلام يا أمى ضيعوا تعاليمه ومبادئه وأحكامه ، لقد
أهدروا قيمته الجليلة بجهلهم ، وتركوا الرعاع يربطوا بينه وبين الإرهاب ، فمن
يدافع عن الإسلام الآن ؟ ، وأين هم المسلمون ؟ أذهبى يا أمى للمساجد ، راقبى
النساء فى الشوارع ، شاهدي الشباب المسلم ماذا يرتدى ، وماذا يعرف عن دينه ،
المسلمون يا أمى أهدروا دينهم ونخوتهم وكرامتهم ، ويكفى أننا أكثر من مليار مسلم ، وأطفال ونساء مسلمون
يذبحون أمام أعينهم ولا أحد يتحرك ، وكأنهم يشاهدوا مسلسل حزين ينتظروا الحلقة
الأخيرة منه ، مع أنهم يعلمون جيداً أن الحلقة الأخيرة ستشهد محو وطن مسلم وإبادة
شعب بأكمله.
جاوبينى يا أمى ، " أين أبى ... شهيد " ، " أين أخى ...
شهيد " ، " أين أختى ... شهيدة " وربما تلحقى بهم أنت وتحصلين على
لقب شهيدة وأنا ما زلت بين أحشائك ليرحمك الله من طلبى هذا ، فلماذا أذاً إصرارك
على أن أقدم لهذه الدنيا ؟ الدنيا التى غابت عنها العدالة وتحولت لغابة القوى فيها
يبتلع الضعيف ، والحق فيها أصبح باطل ، والباطل تحول لحق ، الدنيا التى فقدت كل
معانى الإنسانية ويحكمها قانون الغاب ، الدنيا التى تحولنا فيها كعرب ومسلمين إلى
مجموعة من الماشية التى يقودها الغرب بعصاه الغليظة ، فبالله عليكى بأى منطق سأعيش
فى دنيا بها هؤلاء الحكام العرب ، المطأطأة رؤوسهم ، الخانعين خوفاً على كراسيهم ومناصبهم
، الملطخة أيديهم بالعار بعد أن فضلوا مصافحة عدو تتساقط من بين يديه دماء أخوتهم من العرب والمسلمين ، لقد
أهانوا العروبة ولطخوا سمعة الإسلام وأهدروا كرامتنا ، لا وألف لا الموت أفضل بكثير من هذه الدنيا
، أستحلفك بالله وأرجوكى أن تقتلينى يا أمى.