بقلم - محمد مقلد
ثلاثة أشهر فقط ليتم العامين ، فما زال ينتظر مرحلة الفطام ، يقضى معظم
أوقاته يحبى على أربع ، محاولاته للاعتماد على قدمية لا تتوقف ، معظمها فاشلة ،
والقليل منها يسمح له بخطوتين أو ثلاثة على أقصى تقدير ، تعود أن يبتسم مع سماع دوى
الانفجارات التى تحولت إلى أصوات تطرب آذنيه ، ويصاب بالحزن ومواصلة البكاء إذا
انقطعت لعدة أيام متواصلة.
مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 ، التى سطر فيها الشعب المحتلة
أرضه ، البداية الحقيقية للكفاح ، أصابت قذيفة صهيونية منزله ، فأخذ يراقب بعينيه
البريئتين جثث أبيه وأمه وأشقاءه الثلاثة ، فتوجه على أربع ليتوقف أمام وجه أبيه ،
يبادله الابتسامة ، ويتحسس بيديه الرقيقة وجه الشهيد معتقداً أنه يداعبه ، حتى
التقطته يد أحد رجال المقاومة ، الذى سارع بضمه إلى صدره وقطرات الدموع الساخنة
تتساقط على جبين الرضيع من هول المشهد ، ومصير طفل فقد كل عائلته ، وأصبح مطالب أن
يواجه وحده فى هذا السن ، مستقبل مجهول شديد الظلمة ، فى غابة لا ترحم الضعفاء ،
سقطت منها كل أوراق الانسانية والعدالة والشعور بالرحمة.
وأصبح الطفل فى رعاية من لا يغفل ولا ينام ، فكتب الله تعالى له ، أن يغير
عائلته ، لتتكفل به والدة وشقيقة رجل المقاومة ، فوجد كل الرعاية والعطف ، واشتد
عوده داخل منزل يؤمن أصحابه بمواصلة المقاومة والجهاد ضد المحتل ، لتحرير أرضهم ،
وتخليص المسجد الأقصى من سيطرة أعداء الله.
وبدا الطفل فى الثامنة من عمره يعرف حقيقة دوى الانفجارات التى كان يبتسم
وهو رضيع عند سماع أصواتها ، وتعمد رجل المقاومة أن يصطحبه معه فى هذا السن الصغير
، ليحضر تدريبات الكتائب ، لتبدأ رحلة الاستفسارات وعلامات الاستفهام تتزاحم على
عقله ، ماذا يفعل هؤلاء ؟ ولماذا يقيمون تحت الأرض ؟ وما سر ارتدائهم هذه الملابس
الغريبة وإخفاء وجوههم بهذا الشكل ؟ وجميعها بالطبع أسئلة حاصر بها الصغير رجل
المقاومة ، الذى لم يبخل عليه بإجابات وافية لكل أمر استفسر عنه ، بل وقص عليه
تفاصيل استشهاد عائلته وهو طفل رضيع ، فبدت كفكرة متعلقة فى عقله الصغير ، أخذت
تنمو عاماً وراء الآخر ، حتى تحولت ببلوغه مرحلة الشباب إلى عقيدة للثأر والانتقام
والتخلص من الاحتلال الغاشم.
وانتقل من مرحلة المشاهدة والبحث عن الاستفسارات ، إلى مرحلة جديدة زادت من
قوة عزيمته ، فالطفل الذى كان يكتفى بمراقبة التدريبات على حمل السلاح واستخدامه
وصنع المتفجرات وطريقة زرعها ، جاء الوقت ليشارك بنفسه فيها ويحمل السلاح ، ويرتدى
القناع ، وشريط " لا أله إلا الله محمد رسول الله " يزين جبهته ، حتى
أصبح مؤهل للتصدى لأعداء الله ، ولم يخيب ظن قيادات المقاومة فيه ، وقدم أوراق
اعتماده كبطل حقيقى ، بأعمال بطولية ضد جنود الاحتلال ، وشاهد بأم عينه أبناء وطنه
يقدمون دمائهم وأرواحهم فداءً لأرضهم ، ودفاعاً عن مقدساتهم ، فتحول قلبه إلى
بركان من الغضب ، يتحين الفرصة للانفجار فى وجه جنود الاحتلال.
فتقدم الصفوف فى ملحمة السابع من أكتوبر ، وانطلق كالأسد الجريح ، ليقتص من
اعداء الله ، الذين قتلوا عائلته ، ودمروا وطنه ، ودنسوا المقدسات ، وداسوا
بأحذيتهم النجسة على أرض المسجد الأقصى الطاهرة ، وبدا صوته فى غلاف غزة وهو يواجه
الأعداء ، وكأنه بالفعل زئير الأسد ، حتى تحقق ما أراد هو ورفاقه ، وشارك فى أكبر هزيمة يتعرض لها الجيش الإسرائيلى عبر
تاريخه.
وتفنن الطفل الذى تربى بين أكناف المقاومة ، فى تدمير الدبابات وأتقن بصورة
بارعة استخدام الصواريخ المضادة للمركبات ، حتى أطلق عليه زملاءه لقب " صائد
الدبابات " وبرهن هو نفسه على أحقيته لهذا اللقب ، عندما ظهرت براعته ، أثناء
محاولة قوات الاحتلال اجتياح غزة برياً من ناحية بيت حانون ، وتمكن بمفرده من
اصطياد ثلاث دبابات وتدميرها بشكل كامل ، ومصرع قائديها من جنود الاحتلال ، وخرج
المتحدث باسم " كتائب القسام " ليتغنى ببطولة أحد رجال المقاومة ، الذى
تمكن من تدمير ثلاث دبابات إسرائيلية بمفرده ، دون أن يلمح حتى عن اسمه أو لقبه.
أعتقد أن ذلك سؤال مهم دار فى ذهن كل من قرأ هذا المقال ، وانتظروا الاجابة
عنه بين السطور ، علماً بأن الأهم هنا ليس فى اسم هذا البطل ، الذى اخترت له لقب " رضيع المقاومة " ، بقدر ما كانت
الأهمية الأكبر ، أن كل هذه الأحداث ستجدها متشابهة فى قصص واقعية مكررة ، أبطالها
دائماً صغار الأطفال ممن فقدو عائلاتهم وتربوا على عقيدة الثأر لدماء الشهداء
والانتقام لتدمير وطنهم ، وإعادة الحق
لأصحابه من بين أنياب المحتل الصهيونى الغاشم مغتصب أرض ليست من حقه.